الصوم بكل أشكاله
لا شك أن الصوم من أقدم الشعائر الدينية والميثيولوجية في العالم، وكان وما يزال ركناً من الأركان الإيمانية التي عرفها البشر على مر العصور. وفي حين هناك من يعتبره موضة اجتماعية "مازوشية" موروثة، زاد حضورها في زمن الميديا والفضائيات وتفشي التعصب والصراعات المذهبية، هناك من لا يزال يعتبره وسيلة لتهذيب النفس وتطهير الجسد من براثن ما يسمى بـ "المحرمات".
هو شعيرة دينية تعني قطعاً مؤقتاً لشيء تعوّد عليه الإنسان من مأكل أو مشرب أو جماع، وهو رسالة روحية اعتقادية وأحياناً رياضية منطلقها جسد المؤمن وروحه، وتكون جهتها سماوية ربانية أو خرافية أو كهنوتية أو ذاتية وربما وثنية.
عرف المصريون القدماء مثلاً الصوم كفريضة دينية يتقربون من خلالها إلى أرواح الأموات. وفي الديانات الهيلينية، كان يعتقد بأن الإله يلهم النبوءات الشافية في الرؤى والأحلام لمن صام بإخلاص. وصام الفيلسوف اليوناني أبيقور Epicurus أربعين يوماً قبل أن يؤدي الامتحان الكبير في جامعة الإسكندرية لشحذ قواه العقلية وطاقة الإبداع عنده.
يعتبر البوذيون من جهتهم الصيام وسيلة لتطهير الذات الإنسانية وأداة ناجحة لتحرير العقل الإنساني من الأوهام. تصوم بعض الفرق البوذية في منطقة التبت في سياق التمارين الروحية الخاصة برياضة اليوغا. أما الهندوس، وهم متعددو الآلهة، فيصومون في الأيام الأولى من الأشهر القمرية. يعتمد الصوم عندهم على قدرات الفرد، وقد يمتد ليوم كامل يمتنعون فيه عن الأكل والشراب. يخففون من وطأته أحياناً بشرب الماء أو قدر من الحليب.
من بين المعتقدات جميعها انفردت العقيدة الزرادشتية (الإيرانية الأصل) بتحريم الصوم لاعتقادها أن هذا النوع من الزهد لا يساعد على تقوية المؤمن في جهاده ضد الشيطان. كذلك لا تشجع طائفة السيخ (طائفة هندية هي مزيج بين معتقدات إسلامية وهندوسية) أتباعها على الصوم، إلا في حالات طبية، لكونها بحسب رجال الدين لا تضفي أية فائدة روحانية إلى مؤديها.
أحزان اليهود
جاءت الديانات التوحيدية (اليهودية، المسيحية والإسلام) لتؤكد على حتمية الصيام خلال فترات معينة من العام، وإن اختلف مفهوم الصوم ودلالته في كل منها. مع اليهودية يتسع الصوم اتساعاً ملتبساً من خلال الاجتهادات، وقد كانت تلك الاجتهادات مرتبطة بالظروف السياسية والاجتماعية التي مر بها اليهود على مر التاريخ. يعد الصوم عندهم رمزاً للحداد والحزن أو إحياء لذكرى نكبة أو كارثة، فيصومون تعبيراً عن الندم والتوبة. يصومون أياماً متفرقة على مدار السنة تعتبر قومية بالنسبة لهم، أهمها "يوم الغفران" وأيام أخرى مرتبطة بما يسمى بـ"أحزان بني إسرائيل". في صوم يوم الغفران يمتنع اليهود عن الشراب والطعام والجماع، كما يمتنعون عن ارتداء الأحذية الجلدية لمدة خمسة وعشرين ساعة، وإذا وقع يوم الصوم في يوم السبت فإنه يؤجل إلى اليوم التالي ما عدا صيام يوم الغفران.
الاجتهاد الشخصي لدى المسيحيين
أما الديانة المسيحية (وهي فروع وفرق) فترى أن الغاية من الصوم ليس الأكل والشرب، لأنه ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان، وإنما ما يخرج منه، وبالتالي فالصوم هو تدريب للإنسان على التحكم بأهوائه. لا يأمر الكتاب المقدس المسيحيين بالصوم. ولكن في الوقت نفسه، يقدم الصوم كشيء جيد، ونافع. ظل الصوم في المسيحية أمراً شخصياً في الفترة التي كانت الكنيسة جزءاً من اليهودية، إلى أن بدأت في إتباع مسار مختلف وصار لها كيان منفصل. بسبب عدم وجود نص يفرض الصيام، ترك تلاميذ المسيح الأمر للاجتهاد الشخصي، وجاء في الموسوعة الكاثوليكية "إن اختلاف التقاليد والمناخ إضافة إلى اختلاف تسعيرة المواد الغذائية أدى إلى تغيير قوانين الصيام تدريجياً". يمتنع المسيحي في صومه عن أكل لحوم الحيوان أو ما ينتج منه كالألبان ومشتقاتها ويقتصر على أكل البقول. في بعض المناطق العربية مثل الأردن يحضر صوم المسيحيين بقوة، وتتأثر الأسواق فتنخفض أسعار اللحوم والمواشي ويزيد سعر الخضار.
من أركان الدين الإسلامي
يبدو أن الصوم في الدين الإسلامي هو الأكثر "وهجاً" إذا جاز التعبير، فقد وضع الصوم كأحد أركانه التي لا يقوم إلا بها. يقول القرآن "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".
إذا كان حضور الصوم قد تقلص في حياة أبناء بعض الطوائف ولم يبق منه إلا رمزيته وعيده وصلواته، فالصوم الإسلامي أصبح لدى البعض كرنفالاً سنوياً. زاد من حضوره أنه لم يعد شهر الصوم والتقوى فحسب، بل شهر الأكل والتفنن في تقديم الأطعمة، ما أدخله في دائرة الاستهلاك، من فنون إعداد الطعام، إلى المسلسلات الدرامية والبرامج الترفيهية، أو الدراسات التي تتحدث عن فوائد الصوم الجسدية والنفسية. ينتظر التجار شهر رمضان اليوم بفارغ الصبر لأنه يحرك العجلة الاقتصادية!
ثمة كذلك مزاجية مستحدثة يتبعها البعض في تعاطيهم مع الأيام الرمضانية، إذ يصبح شهر الصوم بالنسبة لهم مرادفاً للريجيم، وهناك فئة يقتصر حضور الإيمان والتقوى في حياتها على هذا الشهر، كأن حياتهم تقوم على سريالية ما، إذ يجمعون بين الفحش طوال العام والتقوى في شهر واحد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق