وأخيرا صافحت القدس عيون الصليبين. كان ذلك نهاية الفصل الأخير في الحملة الصليبية الأولى بعد حصار فرضه الصليبيون على مدينة القدس على مدى خمسة أسابيع: من 7 يونيو/حزيران إلى 15 يوليو/تموز 1099م.
لم يكن هناك ما يلائم هذا الموقف سوى تلفيق بعض أخبار الرؤى والأحلام المقدسة كما يقول الدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه "ماهية الحروب الصليبية" الصادر عن سلسلة عالم المعرفة، حيث أشيع حينها اشتراك القديس جورج في قتال المسلمين.
اقتحم الصليبيون مدينة القدس يوم الجمعة 15 يوليو/تموز 1099، وأباحوها للسلب والنهب والقتل عدة أيام. فاض الدم وظلت الجثث مطروحة في شوارع القدس عدة أيام.
"في أغسطس/آب 1099 انتصر الصليبيون في معركة فاصلة مع الجيوش المصرية قرب عسقلان. تم تأمين الوجود الصليبي في بيت المقدس. وأسفرت الحملة الأولى عن قيام مملكة وإمارتين صليبيتين في الرها وأنطاكية وطرابلس"
في أغسطس/آب 1099 انتصر الصليبيون في معركة فاصلة مع الجيوش المصرية قرب عسقلان. تم تأمين الوجود الصليبي في بيت المقدس. وأسفرت الحملة الأولى عن قيام مملكة وإمارتين صليبيتين في الرها وأنطاكية وطرابلس.
وهكذا كانت الحملة الصليبية الأولى -التي انطلقت في آب 1096 ووصلت إلى القدس بعد قرابة ثلاثة أعوام- نقطة البداية لحكم صليبي سيطر على بلاد الشام قرونا عديدة.
رغم أن الأطماع الاقتصادية وتوسيع المجال الحيوي الأوروبي والبحث عن أراض جديدة لانتزاع ثرواتها ونهبها هو الهدف الأساسي من الحملات، فإن الحملات الصليبية لم تكن لتحقق هدفها لولا سلاح فتاك حشد مئات الآلاف تحت راية شعار ديني هو "الصليب" لاقتحام الشرق وفرض السيطرة عليه، ولم يكن هذا السلاح سوى "الدين".
هي بضع آيات موجودة في الإنجيل لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، فُسرت على هوى رجال الدين لشحذ همم الجماهير "المؤمنة" الباحثة عن حياة جديدة تنتشلها من البؤس الذي تعيشه، فالمقاتل إن مات ضمن الجنة كما وعده البابا أربان الثاني رأس الكنيسة في ذلك الوقت ومهندس الحروب الصليبية، وإن ظل على قيد الحياة غرق في "لبن الشرق وعسله" حسب الوعد أيضا.
من الصعب العثور على نص موثق لخطبة البابا أربان الثاني التي ألهب بها مشاعر أوروبا بأغنيائها وفقرائها في المؤتمر الشهير المنعقد في مدينة كليرمون جنوب فرنسا 1095، سوى نص غاية في الأهمية قدمه فوشيه الشارتري المؤرخ اللاتيني الوحيد الذي غطى السنوات الثلاثين الأولى من عمر انطلاق الحملات الصليبية (من 1095 حتى 1127م) مشاركًا في الأحداث وشاهدَ عيان ومؤلفًا لكتاب "الحملات الصليبية على بيت المقدس".
نعلم من تاريخ الشارتري أن البابا أربان الثاني حرص على أن يضمن حضور "كبار الأمراء الإقطاعين" لسماع خطبته، وهو ما تحقق بفضل جهود رجال كنيسته. فهذه الخطبة كما يقول المؤرخون لم يقتصر حضورها على "جمع غفير من الناس" بل على "كبار أمرائهم" أيضا. وكان عنوان الخطبة "حملة مقدسة هدفها فلسطين ، اعتمادا على نصوص وردت في الأناجيل المسيحية" أهمها نص من إنجيل لوقا (14:27) يقول: "ومن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذا".
"لكي يكمل البابا إثارة مشاعر "المؤمنين" جعل الحملة بـ"اسم الرب" لا باسمه، قائلا: إن الرب هو الذي يحثكم باعتباركم قساوسة المسيح أن تحضوا الناس من شتى الطبقات، من الجنود المشاة أغنياء وفقراء، بأن يسارعوا إلى استئصال شأفة هذا الجنس الشرير من أرضنا"
ولكي يكمل البابا إثارة مشاعر "المؤمنين" جعل الحملة بـ"اسم الرب" لا باسمه، قائلا: إن الرب هو الذي يحثكم باعتباركم قساوسة المسيح أن تحضوا الناس من شتى الطبقات، من الجنود المشاة أغنياء وفقراء، بأن يسارعوا إلى استئصال شأفة هذا الجنس الشرير من أرضنا وأن تساعدوا السكان المسيحيين قبل فوات الأوان.
وتابع: "إنني أخاطب الحاضرين، وأعلن لأولئك الغائبين، باسم المسيح، أن ذنوب كل أولئك الذاهبين إلى هناك سوف تُغفر إذا انتهت حياتهم بأغلالها الدنيوية سواء في أثناء مسيرتهم على الأرض، أو عند عبورهم البحر، أو في خضم قتالهم للوثنيين. هذا الغفران أمنحه لكل من يذهب بمقتضى السلطة التي أسبغها الرب علي... فليبادر أولئك الذين اعتادوا شن الحرب الخاصة ضد المؤمنين بالمسير ضد الكفار في حرب يجب أن تبدأ الآن لتنتهي بالنصر".
وواصل: "وأولئك الذين ظلوا لصوصا فترة طويلة ينبغي أن يتحولوا الآن إلى جنود المسيح، وليبادر أولئك الذين حاربوا ذات مرة ضد الإخوة والأقارب إلى شن الحرب بحق ضد البرابرة. وأولئك الذين كانوا مرتزقة مأجورين من أجل حفنة من النقود الفضية (شبههم بالخائن يهوذا الذي سلم المسيح لليهود بلاثين من الفضة) عليهم أن يعملوا للحصول على مكافأة خالدة. وأولئك الذين كانوا يجهدون أنفسهم لإيذاء الجسد والروح، ينبغي أن يعملوا من أجل مجد الجسد والروح معا. نعم من ناحية سيكون الحزانى والفقراء، ومن ناحية سيكون الفرحون والأثريان، هنا أعداء الرب وهنا أصدقاؤه".
وأكد البابا أنه "لا ينبغي لشيء أن يؤجل سفر الراغبين في الرحيل، فلينتهوا من تدبير شؤونهم ليجمعوا الأموال، وعندما ينصرم الشتاء ويهل الربيع، يجب أن يبدؤوا رحلتهم في حماسة برعاية الرب".
انتهت الخطبة بحماس منقطع النظير، راح الناس يتداولونها، قام الباب بنشر قساوسته في أنحاء البلاد ليعلنوا النفير العام خدمة للرب. أصبح واضحا من سير الأحداث أن السيف والصليب سيكونان رمز الفرسان.
عدد الآيات التي تدعو إلى العنف في الإنجيل لا تتجاوز عدد أصابع اليد، ولكنها خلافا لشرح رجال الكنيسة الشرقية الذين دأبوا على تفسيرها بشكل رمزي محولين "الجهاد الجسدي" إلى جهاد روحي، تحولت في الغرب إلى آيات تدعو إلى إقامة "شرع الرب" على الأرض، أبرزها تلك الآية التي جاءت على لسان المسيح في إنجيل لوقا (لوقا 22:36): "من ليس له (سيف) فليبع ثوبه ويشتر سيفا" وقد بدأت بسببها حملة منقطعة النظير لبيع الأملاك في أوروبا لشراء السلاح.
تجسدت الحماسة العاطفية التي أيقظتها كلمات البابا في صيحة رددها جمهور الحاضرين بعد انتهاء خطبته "أي الرب يريدها.. الرب يريدها"، وأصبحت هي صرخة الحرب التي رددها الصليبيون في كل معاركهم مع المسلمين.
بإطلالة سريعة على الرموز والشعارات المرفوعة، نجد أن الحروب الصليبية جُعلت حربا "ضد الكفار المسلمين" شعارها "الرب يريدها". أما الهدف فهو: حماية طريق الحج الكاثوليكي من أوروبا إلى القدس وحماية مسيحيي الشرق، وشارة الصليب هي شعار لفرسان الحملة.
"بإطلالة سريعة على الرموز والشعارات المرفوعة، نجد أن الحروب الصليبية جُعلت حربا "ضد الكفار المسلمين" شعارها "الرب يريدها". أما الهدف فهو: حماية طريق الحج الكاثوليكي من أوروبا إلى القدس وحماية مسيحيي الشرق"
الجيش الصليبي كان اسمه "جيش الرب"، وكان جنوده من اللصوص والمجرمين والفقراء والفلاحين والطبقات المسحوقة ممن كانوا يظنون أنفسهم "أصفياء الرب لأنهم فقراء"، وكان عماده "السيف".
وإذا كان لا بد من تشكيل "أيديولوجية" تمهد لصدام عسكري واسع النطاق ضد الحضارة العربية الإسلامية، ليوفر للحضارة الأوروبية النامية مجالا حيويا لنموها، فإن "أيديولوجيا" العداء للمسلمين المستندة إلى النص الديني هي "الوقود" الذي سيحرك عشرات الآلاف من الأوروبيين الفقراء باتجاه الشرق الغني بثرواته وحضارته، وهي ذات الأيديولوجيا التي تشكلها اليوم "فصائل إسلامية متشددة" برموز وشعارات تكاد تكون متطابقة معتمدين على التفسير الديني الذي يلائم غاياتهم وأهدافهم كما فعل "فقهاء أوروبا" في ذلك الوقت.
مات الباب أربان الثاني قبل أن يعلم خبر الاستيلاء على القدس، لكن نعيه كان أيضا نعيا للشرق الذي غرق في حروب دينية لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا.
يختتم المؤرخ ول ديورانت الجزء المعنون بـ"عصر الإسلام" في عمله الضخم قصة الحضارة قائلا: خسر الغرب الحروب الصليبية، ولكنه ربح معركة الأديان؛ فقد طرد كل مسيحي محارب من الأرض المقدسة، ولكن المسلمين - وقد استنزف النصر البطيء دماءهم، وخرب المغول بلادهم- مرت بهم فترة من العصور المظلمة ساد فيها الجهل والفقر، على حين أن الغرب المنهزم قد أنضجه ما بذل من جهود، فنسي هزائمه، وأخذ عن أعدائه التعطش إلى العلم والولع بالرقي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق